تراث المصريين في رمضان.. عادات وتاريخ
لرمضان في مصر طابع خاص ابتداءً من تعليق الزينات والأنوار وحمل الأطفال لفانوس رمضان ومدفع الإفطار والمسحراتي وموائد الرحمن، كل هذه المظاهر تجتمع معًا لتشكل لوحة رمضانية جميلة توارثها الأجيال وبقي أصلها التاريخي لا يعرفه الكثير، والتراث الشعبي يعبر عن الهوية الثقافية التي تميز الشعوب عن بعضها.
فانوس رمضان.. احتفال مصري
فانوس رمضان ملمح أساسي في شهر رمضان، يحمله الأطفال ويطوفون به في الشوارع، ويعلق في الشوارع وعلى واجهات المنازل.
واستخدم الفانوس فى صدر الإسلام في الإضاءة ليلًا للذهاب إلى المساجد، وزيارة الأصدقاء والأقارب، وقد عرف المصريون فانوس رمضان في الخامس من شهر رمضان عام 389 هـ، وقد وافق هذا اليوم دخول المعز لدين الله الفاطمي القاهرة ليلًا، فاستقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس وهتافات الترحيب، وقد تحول الفانوس من وظيفته الأصلية في الإضاءة ليلًا إلى وظيفة أخرى ترفيهية إبان الدولة الفاطمية، حتى أصبح الفانوس مرتبطًا بشهر رمضان حتى الآن.
زينة رمضان.. تطور ليالي الوقود
كشفت دارسة تاريخية لعضو اتحاد المؤرخين العرب إبراهيم عنانى عن أن زينة رمضان وجدت طريقها إلى الاحتفالات الدينية في مصر منذ العصر الإسلامى، حيث كان يطلق عليها «ليالى الوقود»، ويقوم الناس برفع القناديل والفوانيس فوق المآذن ساعة الإفطار ويتم إنزالها يوميا عند ساعة الإمساك.
وبحسب دراسة العنانى، فإن المحتسب «راعى شئون الشارع» وهو يوازى وزير التنمية المحلية حاليًا كان يأمر أصحاب المحلات بوضع قناديل على محلاتهم لإضاءة الشوارع، كما يأمر بتنظيف الشوارع حتى يجتمع الأهالي بها بعد الإفطار لينشدوا الأغانى الدينية فى حب رسول الله، ويرافقهم في ذلك الصيتة المشهورون بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
مدفع الإفطار.. من التجريب إلى العادة
من الملامح الفولكلورية المميزة لشهر رمضان هو مدفع الإفطار، وقد كانت القاهرة هي أول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان، فعند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هـ أراد السلطان المملوكي «خُشقدم»[1] أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه، وقد صادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك.
المسحراتي.. حينما يوقظ الوالي شعبه
كان مشهد المسحراتي ملمحًا أساسيًا من ليالي رمضان، يحبه الأطفال وينتظره الكبار، يطوف في الشوارع والحواري والأزقة بصوته الجهوري ملحنًا عباراته وابتهالاته ومدائحه، ويروي من القصص النبوي بأنغام تطرب لها الأذن.
ويُذكر أن أول من نادى بالتسحير هو والي مصر لدى المنتصر «عنبسة بن إسحاق»[2] في سنة 238هـ، وكان يسير على قدميه من مدينة "العسكر" إلى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط مناديًا: «عباد الله تسحروا.. فإن في السحور بركة».
وفى العصر العباسي كان المسحر ينشد شعرًا شعبيًا يعرف بالقوما، وهو شعر مخصص للسحور له وزنان مختلفان، ولا يلتزم قواعد اللغة العربية ويطلق عليه "قوما" لأنه يقول قوما للسحور.
وقُيل إن أول من اخترع فن القوما هو الشاعر "ابن نقطة " في بغداد.
وفى العصر الفاطمي أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الناس أن يناموا مبكرين بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا الشعب للسحور، وبعد ذلك عين أولو الأمر رجلًا للقيام بمهمة المسحراتي والذي كانت مهمته المناداة: "يا أهل الله قوموا تسحروا" وكان يدق أبواب المنازل بعصا يحملها، تحولت مع مرور الأيام لطبلة يدق عليها دقات منتظمة بدلًا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى "بازة " ومازال يطلق عليها هذا الاسم حتى الآن.
وفى العصر المملوكي ابتدع الناس بدعة جديدة يعلنون بها عن بدء موعدي الإفطار والإمساك، حيث كانوا يضيئون الفوانيس عند بدء الإفطار ويتركونها مضاءة، وعندما يحين الإمساك يطفئونها بالإضافة إلى الأذان.
وكادت مهنة المسحراتي أن تختفي تمامًا، لولا أن الظاهر بيبرس أعادها وعيَّن أناسًا مخصوصين من العامة وصغار علماء الدين للقيام بها، ليتحول عمل المسحراتي إلى موكب محبب، وخاصة للأطفال الذين تجذبهم أغاني المسحراتي ويسعدون بصوته وطريقة أدائه، وغالبًا ما كان هؤلاء الأطفال يحملون الهبات والعطايا التي كان يرسلها الأهل إلى من يقوم بعملية التسحير.
موائد الرحمن.. إطعام الملوك
تُعد موائد الرحمن التي تقام في شهر رمضان من أعمال الخير والبر، وتنتشر الموائد ليس في مصر فقط بل في كل البلدان العربية، في الشوارع وأمام المحال الكبرى وأمام المساجد، ويشرف عليها عدد من المتطوعين احتفالًا وتبركًا بهذا الشهر الكريم.
ويرجح المؤرخون أن أول من فكر في إقامة موائد الرحمن هم المصريون, وذلك يرجع إلي العصر الفاطمي, إذ يؤكد الدكتور عطية مصطفي الأستاذ بجامعة الأزهر أن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي كان أول من أقام مائدة في رمضان، يفطر عليها أهل جامع عمرو ابن العاص، وكان يخرج من قصره نحو 1100 قِدر من جميع أنواع الطعام توزع علي الفقراء.
ويري آخرون أن الأمير أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية في مصر، هو أول من أقام إفطارًا جماعيًا استمر طوال الشهر الكريم, وكان ذلك في السنة الرابعة لولايته, وذلك لتعليم الناس طريق البر والإنفاق على المحتاجين.
وأضاف الدكتور عطية أن الفاطميين كانوا يعدون الموائد تحت اسم دار الفطرة وكانت تقام بطول 175 مترًا وعرض 4 أمتار.
وأشار إلى أنه سواء من بدأ موائد الرحمن الفاطميون أو أحمد بن طولون فإنه من المؤكد أنها فكرة وصناعة مصرية خالصة.
الكنافة والقطائف.. طعام ولطائف
ليس هناك من طعام ولا شراب اقترن اسمه بشهر رمضان أكثر من الكنافة والقطائف، على مر مئات السنين، ولذا وجدنا الحديث عنهما حيًا وحاضرًا في الأدب والشعر العربي على مر العصور، حتى إن الإمام جلال الدين السيوطي كتب رسالة، سماها: «منهل اللطايف في الكنافة والقطايف»، فضلًا عن سباق الشعوب والبلدان حول من كان له السبق في اختراعها والوصول إليها قبل غيره، وكان من أهم هذا السجالات التاريخية، ما يحدث دومًا بين المصريين والشوام.
وكتب الأستاذ محمد سيد كيلاني، المحقق البارز في الأدب والتاريخ في أربعينات وخمسينيات القرن الماضي، دراسة بديعة بعنوان «شهر الكنافة والقطائف» نشرها في مجلة الرسالة الشهيرة في عددها رقم 888 في عام 1950م، لم يقبل فيها الرواية الخاصة بـمعاوية بن أبي سفيان وأكله للكنافة، ورجح أنها ظهرت متأخرة عن عصره، فقال: لو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراء فيما ذكروا من أطعمة. فقد رأينا الشعراء حتى العصر العباسي الثاني يذكرون القطايف والخبيص والفالوذج وغيرها من أنواع الأطعمة، ولم نر في شعرهم أثراً للكنافة وهذا دليل واضح على أنهم لم يعرفوها ولم يسمعوا بها.
وقد لاحظ أن الشعراء المصريين كانوا أول من لهج بذكر الكنافة في أشعارهم وأول من تغنى بها. ومن هؤلاء أبو الحسن الجزار المصري إذ يقول:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الدر
وتبًا لأوفات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ويترجح عند البعض أنها شاعت عندما قدمها المصريون هدية للمعز الفاطمي عند دخوله مصر.
أما القطايف فقد عرفت منذ العصر العباسي؛ وجاء ذكرها في شعر ابن الرومي وكشاجم وغيرهما، ومنهم من شبهها بحقاق من العاج، ومنهم من شبهها بوصائف قامت بجنب وصائف. ومنهم من شبهها وقد رصت في الأطباق بالمصلين الذين يسجدون وراء الإمام. فيقول أحدهم:
لله در قطائف محشوة ... من فستق دعت النواظر واليدا
شبهتها لما بدت في صحنها ... بحقاق عاج قد حشين زبرجدا
البعض يرجع أصل تسمية القطايف بهذا الاسم لتشابه ملمسها مع ملمس قماش القطيفة (المخمل)، وقيل أيضًا إنه عندما قدمت اتخذت هذا الاسم، وذلك حين قدمت كفطيرة محشوة ليقطفها الضيوف فلقبت فطيرة القطائف، ثم تحول الاسم عن طريق دخول العامية فتحولت إلى «قطايف».
من التراث المصري إلى التراث العربي
وفى النهاية نرى أن لشهر رمضان الكريم تراثه الشعبي الخاص به في أحياء وأزقة مصر العامرة، والذي أصبح سمة وتراثًا متعمقًا في جذور الوطن العربي وعلى الرغم من وسائل التكنولوجيا الحديثة فإنها لم تستطع أن تمحو هذا التراث والمأثور الشعبي الخاص بهذا الشهر الكريم؛ لأن جذوره ممتدة ومتعمقة في وجداننا.
المصادر:
1- «حكاية زينة رمضان.. من ليالى الوقود إلى عفريت الليل» موقع الشروق 21 مايو 2017.
2- عبد الحميد حواس – رسالة فى بركة رمضان – الهيئة العامة لقصور الثقافة -2008
3- فؤاد مرسى - معجم رمضان – الهيئة العمة لقصور الثقافة – 2009
4- محمد سيد كيلاني، «شهر الكنافة والقطائف» مجلة الرسالة العدد 888.
5- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خُشقدم بن عبد الله الناصري المؤيدى، من أكبر سلاطين الدولة المملوكية البرجية، توفى فى 7 ديسمبر 1467 بعد ما حكم ست سنين وخمس شهور وأيام و هو عمره حوالى 65 عامًا.
[2] هو عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عيسى بن عنبسة الأمير أبو حاتم وقيل: أبو جابر وهو من أهل هراة ولي إمرة مصر بعد عزل عبد الواحد بن يحيى عنها ولاه المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل على الله جعفر في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
كلمات مفتاحية: مصر، رمضان، فانوص رمضان، الدوله الفاطمية.
تعليقات
إرسال تعليق